قصة الطيبة :
بينما كنت أنتظر موعدي للدخول إلى غرفة الطبيب النفسي ، سألتني زوجتي ، الجالسة إلى جانبي ، إن كنت أريد أن أشرب الماء ، ولم أجبها رغم أنني كنت عطشاناً جداً .
موعد الطبيب :أنتظر هذا الموعد منذ أسابيع عديدة ، وأخيراً سألتقي بطبيب عربي ، يفهمني وأفهمه ، في الزيارة الأخيرة ، أدخلوني إلى طبيبة لا تتكلم العربية ، سألتني سبب وجودي هنا ، فبدأت أحاول أن أشرح لها مشكلتي بالكلمات العبرية القليلة التي أعرفها .
وعندما بدأت زوجتي تتكلم أيضاً ، انهالت دموعها مثل المطر ، فأجابتها الطبيبة بدموع وعطف قائلة : إنها تشعر بوجعنا ، وتفهم صعوبة الحالة التي نعيشها ، لكن من الأفضل برأيها ،أن يعالجني طبيب نفسي يفهم لغتي ، لكي يستطيع مساعدتي .
الطبيب النفسي :حان موعدي ، طلبت مني سكرتيرة الطبيب أن أدخل إلى غرفته ، أمسكتني زوجتي بيد وحملت عكاكيزي بيدها الأخرى ، سألنني الطبيب ، شو اللي صار معك ؟ أجبته : كنت بالورشة ، طلب مني المعلم أوقف بمحل أمسك شغلة ، وإلا حدا بنادي عليّ ، انتبه انتبه .. سأل الطبيب : شو كنت تشتغل ؟ أجبت : بالمعمار .
فرد الطبيب : طبعاً راح تتأذى بشغل الطوبار ، لو إنك شديت حيلك واتعلمت وأخدت شهادة ما كان صابك اللي صابك ، لم اصدق ما أسمع ، حاولت زوجتي التدخل بالحديث : بس يا دكتور ، إلا أنه أسكتها وطلب منها ألا تتكلم بالمرة .
طيب ،كمل ! قالها ولم ينظر إليّ بالمرة ، كان ينظر إلى هاتفه النقال ، ويضغط على لوحة مفاتيح الحاسوب ، وكأن لا أحد معه في الغرفة ، أكملت حديثي : حاولت أن أرمي بنفسي من الطابق الثالث ، رد الطبيب : يأخي إذا بدك تنتحر انتحر ، شو بده يخسر العالم يعني ؟
مين ماسكك ؟ اطلع بره وارمي حالك قدام عجل سيارة وانتهينا ! ، وقفت زوجتي بغضب وأمسكت بمرفقي لتصحبني خارجاً وهي تقول : أنا ماسكته ، وولادة مساكينه ، لا تكبر فإن الله أكبر ، وقفت بصعوبة وقلت له : أنا اللي مش متعلم عندي إي شيء أحسن من العلم ، عندي أخلاق يا دكتور!
ذكريات الحادث:رافقتني زوجتي بخطواتي البطيئة على رجلي المثقلة بالجروح ، كي أخرج من هذه العيادة ، كما رافقتني منذ أن أصبت في العمل ، حين لم أنجح بالهروب من مجسّم ثقيل وقع عليّ ، من طابق عالي من ورشة البناء ، دير بالك ، صرخ مدير العمل لكن رجلي علقت بشيء لا أعرفه ، فوقع المجسّم عليّ وهشّم رجلي .
رفيقة الدرب وآلامي :لم أكن أدري يومها أن الإصابة خطيرة إلى ذلك الحد ، كانت معي رفيقة الدرب طوال المدة التي قضيتها في المستشفى ، كانت هناك عندما قال لي الطبيب إنني فقدت قدرتي على العمل نهائياً بقية حياتي .
وقعت عليّ كلماته أثقل من ذلك المجسم وحطمتني ، أنا العامل النشيط القوي ، الأب الذي يريد أن تكون لأولاده حياة أفضل من حياته ، وأن لا يحرمهم من أي شيء ، لن أعمل بعد اليوم ، لن أستطيع حتى المشي فقدت وعيي يومها عدة مرات ، فكانت زوجتي أول من رأيت بعد أن استعدت وعيي .
كانت زوجتي معي عندما ذهبنا إلى عرس أحد الأقارب ، رأتني عن بعدٍ عندما جلست ، وأنا أنظر كيف يعمل الجميع ،يحملون الزر والمشروبات والحلويات ويستقبلون الناس ويجلسونهم على الكراسي ، يتنقلون بخفى كالنحل .
حاولت أن أساعدهم ولكني لم أستطيع فأعادوني إلى كرسيي ، كلهم ابتعدوا عني ، حتى أقرب الناس إليّ ، لم أكن أريد أن أبقى على هذا الحال ، الموت أرحم ، عندما عدنا إلى بيتنا في الطابق الثالث ، حاولت أن أرمي نفسي من الشرفة ، لكنهم أمسكوا بي ، وفي اليوم التالي شربت كمية هائلة من الدواء ، رجتني زوجتي أن أصبر وأبقي إيماني بالله ورحمته كبيراً على قلبي ، واصطحبتني إلى الطبيب النفسي لكي يعالجني .
محبة وشفاء :قبل أن نخرج من العيادة قلت لها : بدي مَي يا غالية ، نظرت إليّ بعينيها التي لمعت فيها الدموع ، أجلستني على الكرسي ، وذهبت لتحضر الماء ، شربت نصف الكأس وأعطيتها نصفه الآخر قائلاً : لما أنتي حدي راح أشفى . . .
.